كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



قال: وجاء في الأخبار أنه كان للخمر أحوال ثلاثة، ووصفت الأحوال الثلاثة بهذه الآيات.
فلما كان السكر من ثمرات النخيل والأعناب موجبا نهيا عن الصلاة، وكانت إحدى حالات الخمر كذلك، كانت الخمر من ثمرات النخيل والأعناب محرمة بهذه الآية، وكانت هي الحالة الثالثة من حالات الخمر.
وهذا الذي ذكره ليس فيه كثير دلالة، وإنما غاية ما فيه أن السكر من الجميع سواء، فليكن القليل من الجميع سواء.
فيقال له لأن المعنى في تحريم السكر ظاهر، ولا معنى في تحريم القليل، وإنما هو تعبد، والتعبد مختص بما يسمى خمرا.
نعم قال تعالى في فحوى الآية: {إِنَّما يُرِيدُ الشَّيْطانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ}.
فهذا إشارة إلى سبب التحريم، وأنه كان إرادة قطع الشيطان، إنما يريد حالة ابتداء الشرب والاحتواء على قدح الخمر، ولا يريد ذلك حالة وقوع السكر، فبالسكر تقع العداوة والبغضاء، وبه وصل الشيطان إلى مراده، لا بالسكر بل قبل السكر.
فإن قلت: إن الشيطان يريد أن يشرب ليدعوه الشرب إلى السكر، فليس في ذلك دليل على أن ذلك يجب أن يكون محرما.
مع أن الذي به تقع العداوة غير نفس الشرب. وحرم الميسر أيضا لأن الرجل منهم كان يقامر في ماله وأهله فيقمر، فيبقى حزينا سليبا، فيكسبه ذلك العداوة والبغضاء، مثل ما يوجب ذلك السكر من الخمر من العربدة والعداوة، وهذا موجود فيما يوجب السكر منه.
فأما القليل من الخمر، فليست هذه العلّة موجودة فيه، فهو محرم لعينه عند أبي حنيفة، ومحرم عند الشافعي، لأن قليلها يدعو إلى الكثير، وهذا المعنى وما يرد عليه من الاعتراض شرحناه في مسائل الفقه وأصول الفقه.
قوله تعالى: {لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جُناحٌ فِيما طَعِمُوا} الآية: 93.
قال ابن عباس وجابر والبراء بن عازب وأنس بن مالك والحسن ومجاهد وقتادة والضحاك.
لما حرمت الخمر كان قد مات رجال من أصحاب رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم وهم يشربون الخمر فقالوا: كيف من مات منا وهم يشربونها؟ فأنزل اللّه تعالى هذه الآية.
وروي عن علي رضي اللّه عنه، أن قوما شربوا بالشام وقالوا: هي لنا حلال، وأولوا هذه الآية، فأجمع عمرو على أنهم يستتابوا فإن تابوا وإلا قتلوا.
قوله تعالى: {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللَّهُ بِشَيْءٍ مِنَ الصَّيْدِ} الآية: 94.
اختلف في موضع من هاهنا فقال قائلون: إنها للتبعيض، أن يكون صيد البر دون صيد البحر، وصيد الإحرام دون صيد الإحلال.
وقيل إنها للتمييز، مثل قوله تعالى: {فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثانِ}.
وقولك باب من حديد، وثوب من قطن.
قوله تعالى: {لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ} الآية: 95.
يحتمل أنه أراد به وأنتم محرمون بحج أو عمرة.
ويحتمل دخول الحرم، يقال أحرم الرجل إذا دخل الحرم، كما يقال أبحر إذا أتى بحرا، وأعرق إذا أتى العراق، واتهم إذا أتى تهامة، والثالث الدخول في الشهر الحرام، كما قال الشاعر: قتل الخليفة محرما.
والوجه الثالث على خلاف الإجماع، فلا يكون مرادا بالآية، فبقي الوجهان الأولان.
إذا تبين ذلك فقد قال تعالى: {لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ}، فدل مطلق الصيد على تحريم اصطياد كل ما يصطاد من بري أو بحري، لو لا ما استثناه من البحري.
ولما قال لا تقتلوا، أمكن أن يكون تنبيها على أن ذبيحة المحرم ميتة، لأن اللّه تعالى سماها قتلا، والمقتول لا يؤكل، وإنما المأكول هو الذي يذبح.
ويحتمل أن يقال: إن القتل والذبح في عرف اللغة واحد، فهذا إن كان فرقا، فهو فرق مأخوذ من عرف الشرع، وليس يظهر من عرف الشرع هذا، فإن اللّه تعالى يقول: {وَما ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ} وكان ذلك محرما، ويقال ذبيحة المجوسي وذبيحة الوثني.
نعم الذي يقطع منه الحلق واللبة، يسمى في العرف والعادة مذبوحا سواء كان مباحا أو محرما، والذي يرمى من بعيد ولا يذبح من المذبح المعتاد، يسمى مقتولا، ويسمى ذلك الفعل قتلا، قال اللّه تعالى: {وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَما أَكَلَ السَّبُعُ إِلَّا ما ذَكَّيْتُمْ وَما ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ}.
وكل ذلك محرم.
ومنه ما سمي مذبوحا، ومنه ما سماه موقوذا، فلا يتعلق بمجرد هذا الاسم، فلأجل ذلك اختلف قول الشافعي، وأبو حنيفة جعل ذلك أصلا، فقال إذا قال: للّه تعالى عليّ أن أذبح ولدي، لزمه ذبح شاة.
وإذا قال: للّه عليّ أن أقتل، لا يلزمه شيء.
وإذا ثبت هذا، فأبو حنيفة يرى اتباع عموم تحريم الصيد، فأوجب الجزاء بقتل النمر والفهد والسباع المؤذية العادية لطباعها، إذا قتلها المحرم من غير صيال منها.
وذكر القعني عن مالك: ورد في الخبر: والكلب العقور- والكلب العقور هو الذي أمر المحرم بقتله ما قتل الناس وعدا عليهم بجبلته، مثل الأسد والنمر والذئب، والكلب العقور، وما كان من السباع لا يعدو مثل الضبع والهرة والثعلب، فلا يقتلهن المحرم، فإن قتل شيئا من ذلك فداه.
واتفق العلماء على موجب ما ورد في الخبر، وروى ابن عباس وابن عمر وأبو سعيد الخدري وعائشة عن النبي عليه الصلاة والسلام قال:
«خمس يقتلهن المحرم في الحل والحرم:
الحية والعقرب والغراب والفارة والكلب العقور على اختلاف منهم، وفي بعضها هن فواسق»
، وروي عن أبي هريرة قال: الكلب العقور: الأسد.
ويشهد لتأويل أبي هريرة أن النبي عليه الصلاة والسلام دعا على عتبة ابن أبي لهب، فقال: أكلك كلب اللّه فأكله الأسد.
وقيل إن الكلب العقور هو الذئب، ودل لهم ذكر العقور على أن العقر بصورته وقصده غير معتبر، ولكنه إذا كان موصوفا به كفى، فيدل ذلك من طريق التنبيه ضرورة على أن الصيد إذا صال على المحرم وقتله دفعا عن نفسه فلا ضمان.
واستدل الشافعي به على أن لا ضمان في كل سبع عادي بطبعه، فإن ذكر العقور يدل على أن ما في طبعه من الضراوة قائما مقام ما يظهر منه لكل سبع عادي، يجب أن يكون ما في طبعه من الضراوة قائما مقام ما يظهر منه، فهذا صحيح على ما هو قول مالك، ويظهر الكلام فيه على أبي حنيفة، وذكر الرازي فصولا في منع التعليل، كرهنا ذكرها لسقاطتها، ولكونها أقل مما يحتاج إلى ذكرها وتكلف الجواب عنها، فاعلمه.. إلا أن الإشكال في السباع التي لا تعدو ولا تضرى.
واعلم أن ما لا يعدو منها، فأكثرها مأكول اللحم عند الشافعي، كالضبع والثعلب، يبقى ذلك ما لا يسمى صيدا مثل الهرة الأهلية، وهي غير داخلة في عموم الآية.
وبعد، فإنه تعالى لما قال: {أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ}، وقابله بصيد البر فقال: {وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ}، علم أنه إنما حرم للأكل، فانصرف إلى ما يؤكل بحال، ثم قال: ما دمتم حرما، فمد التحريم إلى غاية، والذي هو محرم لعينه، لا يقال فيه حرم عليكم ما دمتم حرما، ويجعل في مقابلته صيد البر، فهذا هو الذي يستدل به الشافعي في تخصيص الآية في مأكول اللحم.
قوله تعالى: {وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا}.
اختلف الناس في ذلك، فمنهم من سوى بين العمد والخطأ وهم جمهور العلماء، ومنهم من خص ذلك بالعمد على ما ذكره اللّه في كتابه، وهو قول طاوس وعطاء وسالم وداود، والذين مالوا إلى موجب الجمهور، وذكروا أن فائدة ذكر المتعمد يظهر في نسق التلاوة في قوله تعالى: {وَمَنْ عادَ فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ}، وذلك يختص بالعمد دون الخطأ، لأن المخطئ لا يجوز أن يلحقه الوعيد، فخصص العمد بالذكر، وإن كان الخطأ والنسيان مثله ليصح رجوع الوعيد إليه، وإذا صح مجمل التخصيص ساغ قياس الخطأ على العمد، والجامع بينهما أن بدل المتلف هو الجزاء، وهو مقدر بمثل الفائت، إما بقيمته من الدراهم أو الدنانير أو النعم، وأبدال المتلفات، يستوي العمد والخطأ كالديات وقيم المتلفات، وغاية ما في النسيان أن يقدر عذرا، والعذر لا يسقط الجزاء المتعلق بالجنابة، الدليل عليه الحلق للأذى، إلا أن هذ لا يستقيم على أصل الشافعي، فإنه فرق في اللبس بين العمد والنسيان، وكذلك في التطيب، ولأن الصوم يبعد جعله بدلا من العين، وقد أوجب اللّه تعالى الصيام فقال: {أَوْ عَدْلُ ذلِكَ صِيامًا لِيَذُوقَ وَبالَ أَمْرِهِ}، يدل على أنه جزاء على الفعل، ومتى وجب جزاء على الفعل، اختلف المتعمد والساهي، لأن الساهي ليس يستحق ذلك، ويبعد أن يكون الصيام في حق المخطئ على ما قاله اللّه تعالى في حق المتعمد: {لِيَذُوقَ وَبالَ أَمْرِهِ}، إلا أن الشافعي يجوز إيجاب الصوم حقا للّه تعالى بطريق البدل، وقد عرف ذلك من أصله في وجوب الكفارة بقتل الآدمي.
والجملة، وجوب الجزاء على الناس بقتل الصيد مسلك على أصل أبي حنيفة، فإنه لا يرى إثبات الكفارات بالقياس، والذي نحن فيه سبيله، سبيل الكفارات عنده، حتى إذا اشترك المحرمون عنده في قتل صيد، فعلى كل واحد منهم جزاء كامل، بخلاف صيد الحرم، فإنه وجب بالجناية على الإحرام، وجناية كل واحد منهم كاملة، وذلك يخرج الجزاء عن كونه بدلا، ومتى ثبت أنه جزاء على الفعل، كيف يجب على الخاطئ؟ سيما والكفارات عنده لا تثبت قياسا، ولما ورد النص في الكفارة بقتل الآدميين في الخطأ لم يجوز قياس قتل العمد عليه، سواء وجب القصاص في العمد أو لم يجب، مثل قتل الأب ابنه، والسيد عبده، فكيف أجازوا قياس الخاطئ على العامد هاهنا، وقد قال تعالى: {لِيَذُوقَ وَبالَ أَمْرِهِ}، ولا يمكن ذلك في حالة النسيان، وتكلف الرازي فروقا بينهما، فقال: في العمد تولى اللّه بيان حكمه، وفي الخطأ تولى اللّه بيان حكمه، فلم يجز قياس منصوص على منصوص.
وهذا جهل مفرط، فإن اللّه تعالى بين حكم العمد فيما يتعلق بالآخرة، وسكت عن ذكر الكفارة، فإن كان السكوت عن ذكر الكفارة دليل على نفي المسكوت عنه، فهلا كان ذكر العمد دليلا على نفي الحكم في المسكوت عنه وهو الخطأ، بل أولى، فإن قوله تعالى: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزاؤُهُ جَهَنَّمُ}، أبان اختصاص الجزاء بالعمد، وإن ذلك المذكور لا يتعلق بالخطإ، فإن قال ومن قتله منكم متعمدا، وجب أن يختص حكم الجزاء بالعمد ولا يشركه الخطأ. فاعلم. وذكر فرقا آخر فقال: إن العمد لم يخل من إيجاب القود الذي هو أعظم من الكفارة، ومتى أخلينا قاتل الصيد خطأ من إيجاب الجزاء أهدرنا، وذلك بعيد، وإبطال لحرمة الصيد.
فيقال: إن القصاص الواجب للآدمي، لا يسد مسد الكفارة، وقد يجب القصاص، ولا كفارة مثل قتل الأب ابنه والسيد عبده، وقوله إنا لو لم يوجب الجزاء في الصيد أهدرنا، إنما كان يستقيم أن لو وجب الجزاء بدلا عن الصيد. وعنده أنه ما وجب بدلا، وإنما وجب عقوبة على الفعل، ولذلك يجب على المشتركين على كل واحد كمال الجزاء وهذا بين.
قوله تعالى: {فَجَزاءٌ مِثْلُ ما قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ} الآية:
اختلف في المراد بالمثل، فروي عن ابن عباس أن المثل نظيره في الخلقة، ففي الظبية شاة، وفي النعامة بدنة، وهو مذهب الشافعي فيما له نظير من النعم، ومالآنظير له كالعصافير وغيرها، ففيه القيمة.
وأبو حنيفة وأبو يوسف يرون أن المثل هو القيمة، ويشتري بالقيمة هديا، وإن شاء طعاما، وأعطى كل مسكين نصف صاع، وإن شاء صام عن كل نصف صاع يوما.
وظاهر القرآن يشهد للشافعي، فإن الذي يتعارفه الناس من المثل، المثل من حيث الخلقة، يقال فيمن أتلف طعاما عليه المثل، وفيمن أتلف عبدا فعليه القيمة، فإن الطعام من حيث الخلقة، ولا مثل للصيد من جنسه، إلا أن الفرق أن المثل فيما نحن فيه، وإن روعي من حيث الخلقة فهو من غير جنس الصيد، مثل إيجابنا البدنة في النعامة، والكبش في الضبع، وهذا لا يمنع كونه مثلا من حيث الخلقة. والمقصود، بيان أن المثل في المتعارف هو المثل من حيث الخلقة والصورة، فاعلمه.